سد النهضة (1 ) أثيوبيا قلوبي الفرار

الخرطوم : عين السودان

تقول القصة انه في زمن مضى ليس بقريب اشتجر جدنا عوض الله مع ابن عمه حول ملكية قطعة ارض فتطور الشجار الى عراك ثم وصل مرحلة استخدام السلاح الابيض حيث تمكن عوض الله من إسقاط ابن عمه أرضا ووضع رجله على رقبته وأخذ بيمناه فراره (فاسه) وهوى به عليه وفي هذا الاثناء صاح المبطوح (عوض الله قولب الفرار , عوض الله قولب الفرار ,) اي لما رأى ان الفرار لا محال قادم و(بالجنبة الفيها الحديدة ) طلب من عوض الله ان يغير اتجاه الفرار

وذلك بان تكون الضربة بالجهة المدببة اي غير تلك ذات الشفرة الحادة لتكون

النتيجة فلقة وليست شجا فضحك عوض الله وجدع الفرار بعيدا ورفع رجله من

رقبته . فالرجل هنا اختار وبسرعة أخف الضررين . ولعل هذا هو حال مصر والسودان اليوم مع سد النهضة الأثيوبي فالسد قد انتهى أمره وأصبح أمرا واقعا والنتيجة النهائية ان اثيوبيا قد أصبحت هي المتحكم في النيل الشرقي (الأزرق الدفاق) تحكما كاملا فما على مصر والسودان إلا ان يستعطفاها ويطلبا منها ان تخفف من وطأة تلك السيطرة (تقولب الفرار) وتسمح بجريان كمية المياه التي تكفيهما ما أمكن ذلك في الحال وفي المستقبل، وهنا يثور السؤال كيف تمكنت اثيوبيا من إحراز هذا الهدف الذهبي وحسمت نتيجة المباراة لصالحها وبهذه الصورة الدرامية وفي زمن تقنية الفار السائدة الآن ؟

(2 )
دون الإسراف في البديهيات لابد من تثبيت بعض الحقائق وهي أن هذا النيل العظيم (سليل الفراديس) هبة من هبات الله لكافة المخلوقات التي تقع على شاطئيه فهو ينبع من تلك الهضبة ويجري ويتلوى الى أن يصب في البحر دون ان تكون لأي ابن آدم يد فيه وفيما بعد ظهرت المسميات اثيوبيا والسودان ومصر وتانا والبحر الأبيض المتوسط وبقية الأسماء مع ثبات حقائق الأشياء كما هي، فبالتالي يحق لاي بشر وأي مخلوق مائي او بري ان يأخذ حقه من الماء في ذلك المجرى من الهضبة

الى البحر وهذا ما أجازته الأعراف البشرية وقننته القوانين الدولية المعاصرة . هذا فيما يتعلق بالجغرافيا الطبيعية أما الحقيقة الثانية وهي خاضعة للجغرافيا السياسية ان مصر هي أكثر الدول استفادة من هذا النهر ماء وكهرباء وسمكا وحاجات تانية حامياني ثم يأتي بعدها وبمسافة بعيدة السودان ثم تأتي اثيوبيا وهذا راجع الى عوامل حضارية وثقافية فكما يقولون الحاجة أم الاختراع. فمصر استشعرت أهمية

النيل كواهب لحياتها فاعتنت به وأقامت له المهرجانات وأعطته العرائس وحصدت مياهه منذ أيام الفراعنة الى قناطر محمد علي الخيرية الى خزان اسوان الى السد العالي ولأنها تحتفي به دون الآخرين اعتبرته ملكها (اليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ..) الآية.
(3 )
تأسيسا على الذي تقدم عندما تحدث المجاعات في القرن الأفريقي تضرب منابع النيل وليس مصبه فآخرالمجاعات في القرن المنصرم 1974 ثم 1984 كان نصيب مصر فيها صفرا وفي السودان ضربت السودان الغربي أما اثيوبيا فقد كانت الأكثر تأثرا حيث كان الموت بالجملة وفي شوارع أديس ابابا فالذي أحدث هذا الفارق هو السد العالي وسدود السودان سنار والرصيرص (قبل التعلية) وذات الأمر حدث للكهرباء مصدر الطاقة الأول في المنطقة إذ ان ذات السدود أحدثت الفارق لدرجة المفارقة، فمصر تنعم بكهرباء تفيض عن حاجتها وتصدر للآخرين (نحن

منهم) والسودان مازالت حاجته للكهرباء كبيرة بالمقارنة مع مصر حتى بعد سد

مروي وهذا النقص يرجع لقصور في الإمكانيات الإدارية السودانية وليس الطبيعية وهذه قصة أخرى، أما اثيوبيا فكانت الأفقر لدرجة ان بعض أحياء أديس ابابا كانت لا تنعم بالكهرباء وربما بعضها حتى الآن.
(4 )
تأسيسا على الذي تقدم كان لابد لأثيوبيا ان تفكر في أمر تلك المفارقة، فالأمطار

تهطل فوق هضبتها وتتجمع في بحيراتها وتخرج منها كالضيف لتروي وتمنح النور للآخرين وهي تموت هي من الجوع وتعيش في الظلام وهذا يعني ان أي مشروع لاستغلال هذا المورد الطبيعي سيكون مشروعا وطنيا يلتف حوله كل الشعب ويموت دونه، فكانت هذه الفكرة تعشعش في الأذهان منذ أيام الامبراطور هيلاسلاسي بيد أنه انشغل بإزهاق استقلال اريتريا ثم أيام منقستو هيلا ماريام الذي طرح الفكرة ولكن غيبويته الايدولوجية جعلته غارقا في سياسات وحروبات مع الصومال

وداخلية مع اريتريا التي كانت جزءا من اثيوبيا وأبعدته عن استغلال (الاباي) هذا

هو اسم النيل الأزرق وهو داخل اثيوبيا وهو اسم يدل على الإعزاز والتبجيل وهذا يعني الإدراك بأهميته ولكن (العين بصيرة والحيلة قليلة).

(5)

في مطلع تسعينات القرن الماضي غيض الله لأثيوبيا قيادة جديدة حيث انتقل الحكم

من الأمهرا أصحاب العقلية الامبريالية التوسعية الى حكام شباب من قبيلة التقراي (مليس زيناوي) ذوي عقلية تنموية واقعية أول ما فعلوه تخلصوا من صداع اريتريا فأرجعوا لها استقلالها وصفروا المشاكل مع الجيران فكان لابد من ان يطرحوا مشروع الاستفادة من الاباي كمورد طبيعي هام فكان مشروع سد النهضة العظيم .

مصر والسودان كانتا مدركتين لما يدور في اثيوبيا وحاجتها ولا بل وحقها الطبيعي في الاستفادة من مواردها الطبيعية هذا مع المحافظة على حقوقهما الطبيعية ولكن المشكلة ان أثيوبيا تعتبر تلك الحقوق المصرية السودانية مكتسبة وليست طبيعية .

حتى ولو كانت مكتسبة فالقوانين الدولية تحميها . المهم في الأمر اثيوبيا طرحت

مسألة السد الذي يمكن ان ينتج 6000 (ستة آلاف ميغاوات) والذي يجعل اثيوبيا أكبر مصدر للكهرباء في أفريقيا ولم تمانع مصر ولا السودان فهذا حق مشروع لأثيوبيا فأصبح الخلاف على التفاصيل.

(6)

كمية الكهرباء المرادة يمكن إنتاجها من تخزين 14 مليار متر مكعب من الماء ولكن اثيوبيا أصرت على التخزين القرني وهو 74 مليار متر مكعب بحجة انه يمكن ان تتوالى سنوات عجاف يقل فيها المطر فيجب ألا يتوقف إنتاج الكهرباء وهذه نقطة الخلاف الأولى والأساسية ثم ان مصر والسودان يريان أن هذا السد يجب ان يخضع لإدارة الدول الثلاث ويجب أن لا تحدث فيه اي خطوة إلا باتفاق الثلاث دول وهذا مراعاة للحقوق الطبيعية والمكتسبة ولكن اثيوبيا أصرت على أن أمر السد أمر سيادي ويخصها وحدها ولن تسمح بإدارة مشتركة وهذه نقطة الخلاف الثانية، فاثيوبيا كانت تعمل بنظرية الدجاجة الصغيرة الحمراء (الفول فولي زرعته وحدي وسقيته وحدي ورعيته وحدي وحصدته وحدي وسآكله وحدي) فالماء مائي يتجمع فوق سمائي وينزل فوق أرضي فسوف أسيطر عليه وحدي واستفيد منه أولا وأعطيكم الباقي . لحدي عام 2010 ما كان لأثيوبيا ان تشرع في قيام السد الذي كانت دراساته وخططه جاهزة (موية ونور) لأسباب موضوعية وهي أن مصر مبارك ( ما اسمحش ..) والبشير في خريفه البترولي كانا بالمرصاد لأي كاني ماني في النيل الأزرق من جهة اثيوبيا.

(7)

إثيوبيا بحضارتها الضاربة في القدم والتي جعلت بطنها غريقة احتضنت دراسات السد وتلفعت بها كما تتلفع بالليل والصمت لكنها نامت عليها بعين وفتحت عينها الأخرى ( قدر الريال أب عشرة ) على مجريات الأمور في مصر والسودان , وهذه تشمل الأحداث داخل اي منهما ثم الأهم ما يجري بينهما فجرت الرياح في الاتجاهين أي داخل البلدين وبينهما بما يشتهي السفن الإثيوبي فاغتمنتها دون تردد عملا بقاعدة (إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن الريح طابعها السكون ) وتحركت بذكاء

وأحرزت هدفها الذهبي الذي هو الآن سد (قدر الليلة وباكر) يغني عليهو سرور وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ كمان وسيبدأ مليانه في يوليو القادم , وما على مصر والسودان إلا ان يركبا أعلى ما في خيلهما كما قال وزير الخارجية الأثيوبي قبل يومين لتصبح هذه السنوات التسع (2011 -2020 ) سنوات الغفلة في مصر والسودان وسنوات اليقظة في أثيوبيا، فمارد الهضبة قد تحرك كما يقول الأستاذ النور حمد أما ذئب الوادي والصحراء فقد توقف, فالفأس (الفرار) الآن بيد اثيوبيا، ومصر والسودان مطروحتان على الأرض فحتماً ستهوي به بالجهة الفيها الحديدة ولكن هل بالجهة التي بها الشفرة الحادة أم بالجهة المدببة . فخليكم معنا لإن شاء الله لنرى لماذا حدث ما حدث أو بالأحرى (حدس ما حدس).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

7 + عشرين =