السفير يوسف سعيد : في رحيل نجوى قدح الدم: السفيرة المهندسة السودانية – الألمانية

الخرطوم : عين السودان

فاضت روح نجوى عباس قدح الدم إلى بارئها يوم الاربعاء 26/5/2020م الموافق 3 شوال 1441هـ ثالث ايام عيد الفطر المبارك في مستشفى علياء بأمدرمان. غفر الله لها ورحمها رحمة واسعة. درست نجوى مرحلة التعليم الاوّلي والمتوسط والثانوي في امدرمان ثم التحقت بجامعة الخرطوم كلية الهندسة الميكانِكيّة وتميزّت في الرياضيات بصفة خاصة، وتخرجت بامتياز عام 1987م. وهي ام درمانية عريقة من حي العباسية. عشقتْ امدرمان التي نشأت وتعلمت فيها ثم هاجرت إلى النَمسا فيوغندا للعمل ثم عادت إلى امدرمان وفاضت روحها فيها وفي ثراها وُورِيَت.
• وهي سيدة مُبادِرة دائما، لها مقدرة مذهلة على الدخول في الناس والتعامل معهم وكسب ودهم واحترامهم مهما تكن توجهاتهم، ولها تعاطف فطري مع الضعفاء وذوي الحاجة، تسعى في خدمتهم ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وهي سيدة اجتماعية ذات حيوية وطاقة عالية في حركتها في الحياة. في شهر مارس من عام 2003م هَبَطتُ في مطار فِيَنّا حاضرة النَّمسا سفيراً وأفادني بعض اعضاء الجالية السودانية الذين استقبلوني في المطار – فيما افادوني من احوال الجالية – أن ثمة استاذ في إحدى جامعات السودان يرقد مريضاً في بيت نجوى وزوجها بعد أن استيأس اطباؤهُ في المستشفى من شفائه من السرطان فبادرت نجوى باستضافته في بيتها تمارضه ريثما يوجد له حجز في الطائرة ليسافر إلى ذويه في السودان. التَمَستُ من اعضاء الجالية الذين نقلوا لي هذا الخبر رقم تلفونها ورتبتُ لقاءً معها صباح اليوم التالي في بيتها لأقف على حال المريض. استقبلتني هي وزوجها Neumann الالماني مهندس الطاقة النووية المسلم وابنتها نفيسة ذات التسعة اعوام أحسن استقبال، وزرت المريض الذي خُصصت له غرفة في الشقة وكان يُحتَضَر ولا يقوى على الكلام، وبعد يومين غادر إلى الخرطوم. هذه الواقعة لفتت نظري، وشدتني الى نجوى اصالةُ سودانيتها وإنسانيتها، إذ بادرت من بين كل اعضاء الجالية في فِيَنّا بفتح باب بيتها لهذا المريض الذي لا تعرف عنه إلا أنه سوداني ومريض في غربة، فعرفتُ مَعدِن هذه السيدة الإستثنائية و أرومَتها وتوطدت بيننا الصلة إلى أن عدت إلى السودان بعد عامين.
• وإذ كانت نجوى ناشطة في التيار اليساري السياسي في عهد الطلب في جامعة الخرطوم في ثمانينات القرن العشرين فقد غيرتْها تصاريف الايام واقتربت اكثر فاكثر من دينها والتزمتْهُ مظهراً و مخبراً. ولما كانت نجوى سيدة مِمراضَة فقد كانت تكثر من الصلاة والدعاء عند المرض ولَكَم سمعتها وهي تفوض امرها إلى الله وهي طريحة الفراش في بيتها. وسافرتْ مرة إلى القدس المحتلة وصلَت في المسجد الأقصى تسأل الله العافية. وقد خَشِيتُ عليها من “الدروشة” لكثرة ما كنت اسمع من دعائها وابتهالاتها إلى الله في دارها وهي في سرير المرض.
• كانت نجوى عندما عرفتها أول مرة في فِيَنّا تعمل في وظيفة محترمة في “يونيدو” منظمة الامم المتحدة للتنمية الصناعية، ولكنَّ طاقات نجوى المتفجِّرة لم تكن لتستوعبها يونيدو، فكانت لها صلات وعلاقات سياسية بعواصم أفريقية وأوربية عديدة رأت المنظمة أن ذلك لا ينسجم مع الطبيعة الفنية لوظيفتها فوقع الخلاف بينها وبين المنظمة فغادرت يونيدو إلى يوغندا لتعمل مستشارة لرئيسها موسى فيني. كان عملها في كمبالا ذا طبيعة دبلوماسية سياسية استخبارية يسعى لتقريب وجهات النظر بين حركات المعارضة المسلحة لحكوماتها في كل من يوعندا (Lord Resistance Army جيش الرب) والسودان: حركات دارفور المسلحة المنطلِقة من جمهورية جنوب السودان والصراع بين الاطراف في جوبا، وكل ذلك في محاولة لإحلال السلام في هذا الاقليم الافريقي المشتعل. وكان عمل نجوى محفوفاً بالمخاطر والأهوال فضلا عن ان بعض دبلوماسيينا المعتَمَدين لدى كمبالا واخرين في الخرطوم يغارون منها اشد الغَيرة بسبب مقدرتها الفائقة على الحركة والتواصل مع الحركات المسلحة المعارضة للحكومات التي سلفتْ الإشارة اليها، وبسبب الاحترام والتقدير الذي حظيتْ به نجوى من رؤساء هذه الدول. وكان احد سفرائنا في كمبالا من اشد الناس غَيرة بل عداوة صريحة لنجوى ذلك انه هو ذاته كان في يوم من الأيام قائداً لفصيل مسلح معارض للخرطوم، ثم جرى الصلح بينه وبين الحكومة فكافأته بتعيينه سفيراً في بعض الدول وآخرها يوعندا. ولقد منحت حكومة السودان قبل نحو خمس سنين نجوى لقب سفيرة في رئاسة الجمهورية تكريما لها وغِطاءً وحصانة للمزيد من تسهيل حركتها بين العواصم الافريقية والاوربية. ولم يكن القصد منه ابتعاثها سفيرة مقيمة في احدى دول العالم. وكنتُ نشرتُ وقتئذٍ مقالاً في إحدى صحف الخرطوم أُشيد فيه بقرار تعيينها السياسي سفيرة وأنها ستخدم قضية احلال السلام في السودان. ولقد جرّ عليها عملها هذا المحفوف بالمخاطر كما ذكرتُ آنفا المصائب التي كادت توردها موارد التهلكة عندما اصيبت بآلام مُمِضَّة في معدتها إِثرَ تناولها كوباً من عصير البرتقال اثناء غداء في دار الرئيس موسى فيني وفي حضوره – كما اسلفنا. هنا نشِطت الاتصالات الهاتفية بين القصرالرئاسي في كمبالا والقصر الجمهوري في الخرطوم وزوج نجوى في فِيَنّا. الرئيس اليوغندي يريد علاجها في بلاده بموافقة الخرطوم وزوجها، والخرطوم تريد مجيئَها للعلاج في وطنها، وزوجها يصر على ان تُرسَل إليه على جناح السرعة في فِينَّا. و اخيرا استقر الرأي على إرسالها إلى زوجها في فِيَنّا فأُرسِلت بطائرة الرئيس اليوغندي الرئاسية الخاصة إلى مطار فِينَّا و من هناك أُخِذَت بمروحية (هلكُبتر) هبطت بها في فِناء مستشفى “أكَهَا” الشهير في فِينَّا، و أجريت لها جراحة عاجلة، ففتحت بطنها من فم المعدة إلى السرّة واستؤصِل جزء من المصران فشُفِيَت بإذن الله، و لعل ذلك كان في شهر مايو من عام 2014م. و إذ صادف ذلك وجود الدكتور مصطفى عثمان وزير الخارجية السابق في فِيَنّا بدعوة من الغرفة التجارية النَمسوية-العربية فقد ذهب لزيارة نجوى و زوجها في المستشفى. فدعت نجوى الدكتور مصطفى عثمان لكونه طبيبا و كشفت له عن بطنها بحضور زوجها ليقف على آثار الجراحة. ولكن نجوى لم تقل اي شيء عن الحادث الذي وقع لها في كمبالا غير قولها انها شربت كوبا من عصير البرتقال في الغداء مع الرئيس اليوغندي في بيته و أنها احست إثر ذلك بآلام غير عادية جيئ بها بسببها للعلاج في النَمسا. ولم تُعِر الإشاعات التي انطلقت تقول انها قد سُمَّت في محاولة لإغتيالها أدنى اهتمام بل انكرتها. والحقُّ انه من المستبعد جدا ان يحاول احد تسميمها وهي في مائدة رئيس البلاد. وكانت نجوى عليها رحمة الله الواسعة قد دعتني لحفل عشاء اقامته في بيت اسرتها في العباسية بامدرمان على شرف الرئيس موسى فيني عند زيارته للخرطوم بدعوة من الرئيس السابق عمر البشير ليشهد مع رؤساء افارقة اخرين ختام جلسات “مؤتمر الحوار الوطني” ولكن حيل بيني و بين تلبية الدعوة فاعتذرت لها. ولعل ذلك كان في العام 2015م.
• مضت فترة طويلة ولم اتبادل “الإيميلات” مع نجوى كما اعتدنا سنين عددا، وفي أوائل شهر مارس الماضي بعد انتشار خبر لقاء “عِنتبّي” بعثت لها برسالة الكترونية اسألها اين هي الان وهل من امل في زيارة قريبة للسودان فردّت قائلة انها ستتوجه قريباً من يوغندا الى كندا لزيارة ابنتها نفيسة في الجامعة ومن هناك ستعرِّج على السودان قبل عودتها لمقر عملها في كمبالا. ولما استبطأتُ عودتها بعثت لها برسالة الكترونية أخرى أتساءل فيها أين وصلتْ. فأجابتني انها الان في امدرمان. فاتصلت بها بالتلفون فوجدتها لا تقوى على الكلام لانسداد في حلقها بسبب النزلة الحادة التي اصابتها. فعبرتُ لها عن رغبتي في زيارتها رغم الحظر المفروض على الخرطوم. فقالت بل هي التي ستزورني في البيت بعد ان تتحسن حالتها الصحية. ثم تحدثت معها يوم 5 ابريل فوجدتها بخير وقالت انها تعمل هذه الأيام مع الفريق البرهان في القيادة العامة في بحري وان لها إذناً خاصاً بالحركة خلال ساعات الحظر ليلاً وستتصل بي قريباً جداً قبل وصولها الى دارنا لتلتقي بزوجتي والاسرة. ثم استبطأتُها تارة أخرى فبعثت لها برسالة نصية أخرى اسأل عن حالها ففاجأني خبر رحيلها بعد يومين من ارسالي الرسالة لها. وهكذا تأكد لي انه لم يُكتب لنا ان نلتقي كفاحاً منذ نهاية عام 2004 إلا عن طريق الرسائل.
• و اخيرا ليعلم القارئ ان هذه السيدة المحبة لعمل الخير كما قدمنا في مفتتح هذه الكلمة قد تنازلت طواعية عن شقتها في فِيَنّا لسيدة سودانية واسرتها ذات الحاجة الملحة للسكن بعد ان توفي زوجها. منحتها شقتها مجاناً لنحو عامين حتى وجدت حلا لمشكلتها. أي إنسانية هذه!
• هذا و لقد رأيت انه – و نحن بين يدي وداعها و رثائها حزانى باكين، مستغفرين، مسترجعين، محوقلين، راضين بحكم الله، داعين لها بالفردوس الأعلى من الجنة – رأيت في هذا المقام الحزين -ولكل مقام مقال – الا اتحدث عن دور فقيدة البلاد في لقاء “عنتبي” بين رئيس مجلس السيادة الانتقالي و رئيس وزراء إسرائيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

عشرين − 12 =