سهير عبدالرحيم : رجال في قطر

الخرطوم : عين السودان

حين كتبت قبل فترة أن السودانيين في دول المهجر لو أوكل إليهم أمر تسفير وتسكين وإعاشة المراقبين لامتحانات الاساس و (الكنترول)، قلت لو أوكل اليهم الأمر لقاموا به أفضل من الحكومة ومن سفاراتنا في تلك الدول.
ومازلت عند قولي هذا، فغالبية السودانيين في الخارج هم سفراء للحق والخير والجمال، وهم ذاكرة نضرة متجددة للزمن الجميل .
أذكر أني خلال أدائي مناسك الحج العام الماضي وعقب أن أديت صلاة الظهر في المسجد الذي يقع بالقرب من الفندق الذي كنا نقيم فيه، أذكر أني حين خرجت وجدت أن حذائي سرق .
تلفت يمنةً ويسرى وأنا لا استطيع عبور الاسفلت الحارق، ورآني شاب سوداني أسرع نحوي وخلع حذائه لي، وعبر الشارع نحو الضفة الأخرى، بينما كانت الشمس تلهب ظهورنا دعك عن أرجل حافية، هذا موقف وغيره الكثير الكثير من المواقف التي تدل على نخوة ومروءة السودانيين في الغربة .
يوم أمس قدم السودانيون في دوحة قطر أنموذجاً استثنائياً في التعاضد والتكاتف، وهم يكملون بنفس المحبة والوفاء مراسم تكفين وتشييع جثمان الصديق والأخ الحبيب الفارس مهند ميرغني .
رجال لا تغيب الشمس عن عطائهم, وقفوا وقفة رجل واحد منذ منتصف فبراير احتفاءً ووداً للفارس مهند الذي يستحق كل جميل، ثم وقفوا عقب ذلك في مداواته وتطبيبه لحظة بلحظة، حتى أختاره الله إلى جواره .
لم يدخروا جهداً ولم يوفروا مالاً ولم يبخلوا باهتمام ورعاية، ولو كان العمر (بشتروهو)، لكان لسان حال أهل الدوحة يقول: (العمر من وين بشتروهو).
والله أني وكلما تزداد النكبات والويلات بهذا الوطن الحبيب، وكلما تطفو على السطح تيارات الاتجار بالسياسة والإفساد في الأرض، إلا أنني وحين أشاهد إشراقات المغتربين خارج السودان، والتي تحكي وتقول بكل فخر: (أنا زول الحارة أنا سوداني) أنا كلما أشاهد ذلك يتجدد الأمل في سودان رائد معافى .
وإني على يقين بأن رابطة المريخ بدولة قطر هي أكبر من رابطة وأكثر من تجمع رياضي، ولكني أيضاً على يقين بأن الذين زاروا مهند وصلوا على جثمانه المسجى كانوا من كل أطياف الرياضة مريخاب وهلالاب ومورداب، لسان حالهم فقط (أنا سوداني .(
نعم رحل مهند.. رحل الغمام وغادر سفير النوايا الحسنة، وقد كنت أمني النفس في كل مرة يأتي خبر وفاته وتوقف قلبه عن الخفقان، كنت أمني النفس بأن يعود قلبه ليضخ الحياة فينا قبل أن يضخها فيه .
ترجل الفارس عن صهوة حصانه، ولكنه أكد لنا أن هذه الحياة التي نتقاتل فيها، هذه الحياة التي تخدعنا يومياً بزينة وتغرينا بالجري خلف المال والجاه والعزوة والسلطان، أنها لا تساوي شيئاً.. أنها صغيرة زائلة لا قيمة لها، وأن مهند مكانه ليس بيننا هنا فهو لا يشبه هذا العالم، لذلك كان لا بد أن يرحل، فشبيه الملائكة مكانه مع الملائكة .
خارج السور :
أكتب هذه السطور ونحن في الطريق إلى مطار الخرطوم لاستقبال الجثمان، مات مهند ولكنه حي في قلوبنا (إنا لله وإنا إليه راجعون)، تقبله يا الله القبول الحسن واغسله بالماء والثلج والبرد، واحشره مع الصديقين والشهداء.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

صحيفة الانتباهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ستة عشر + واحد =