الدواء.. (روشتات) هل تستطيع الحـكــومـــة صـــرفــها؟

الخرطوم : عين السودان

تحقيق: هبــــة عـــــبيد
لم تفلح محاولات (أحمد) في ايجاد دواء لابنه (خالد) المريض خلال رحلة بحث شاقة استمرت ثلاثة ايام في العاصمة المثلثة ابتداءً من ام درمان ومروراً بالخرطوم وانتهاءً ببحري، ليتفاجأ اثناء عملية بحثه باغلاق معظم الصيدليات أبوابها في وجه طالبي الدواء نسبة لعدم توفر الادوية بها، مشهد لم يعد جديداً منذ ان بدأت ازمة الدواء تطل برأسها عقب انفصال الجنوب وذهاب عائدات البترول التى كانت تشكل 90% من موارد النقد الاجنبي.
حاجة عاجلة
)والله غلبنا وما عارفين نعمل شنو؟) هذا كان ما قاله الطاهر عيسى الذي وجدته (الإنتباهة) يقف متكئاً على احد اعمدة الانارة وسط الخرطوم ويحمل في يده روشتة دواء لم يتمكن من صرفه لعدم توفره بالصيدليات، ساردا بكل حسرة واسى معاناته في عملية البحث عن دواء، وقال: يا ربي العافية ما تبقى شحدة)، واضاف قائلاً: (حتى بقروشنا رغم تعبنا في جمعها لم نجد الدواء)، وابدى امتعاضه من الاوضاع السيئة التى تعيشها البلاد وازماتها المتلاحقة، وتابع قائلاً: )اي حاجة بقت صعبة ومافي)، مشيراً الى ان حاجته للدواء عاجلة ولا تحتمل التأخير وانقطاع النوع الذي يستخدمه لفترة طويلة.
الوضع الحالي
بحسب مراقبين في الحقل الطبي فإن وضع الدواء غير مطمئن، ففيما وصفه البعض بالكارثي، وضع البعض الآخر روشتات للحكومة لايجاد علاج للازمة، في حين كشفت دراسة اجرتها الادارة العامة للصيدلة الاتحادية أن نسبة الوفرة الدوائية اقل من 40% لبعض الاصناف ضمن القائمة الرئيسة للادوية.
احتقان
في وقت شدد فيه رئيس اللجنة التسيرية للاتحاد المهني للصيادلة د. بهاء عبد الرحيم الحاج على ضرورة سداد وجدولة الديون المستحقة على الامدادات الطبية البالغة (103) ملايين دولار والشركات المستوردة البالغة (60) مليون دولار بالسعر التأشيري الرسمي، ودعا الى اهمية مراجعة القوانين والتشريعات والاجراءات المساهمة في زيادة الاحتقان بكافة المؤسسات، وقطع بأن التزام الحكومة والتعامل مع الدواء كسلعة استراتيجية بتوفير مبلغ (55) مليون دولار شهرياً يتم توزيعها على الامدادات وقطاعي الصناعة والاستيراد، ونبه الى تفعيل وتشجيع طرق الدفع الآجل من الشركات المحلية للشركات الاجنبية لضمان انسياب ما يقارب 65% من الادوية المستوردة والمواد الخام.
إحجام الشركات
وارجع د. بهاء اسباب الازمة الى عدم توفر النقد الأجنبي بسعر بنك السودان للقطاع العام (الإمدادات الطبية) والخاص (مستورين ومصنعين)، مما انعكس عليه إحجام الشركات المستوردة عن الاستيراد بسبب فرق سعر دولار بنك السودان وسعر السوق الموازي، وارتفاع تكاليف الانتاج (بعضها زاد بنسبة ٣٠٠٪) بالنسبة للمصانع المحلية، فضلاً عن ديون الشركات العالمية والمحلية على الإمدادات الطبية، وبالتالي احجامها عن التعامل مع الإمدادات .
روشتات
ووضع د. بهاء الدين بعض الحلول لمعالجة مشكلة ازمة الدواء، وتتمثل في التزام الحكومة بالتعامل مع الدواء كسلعة إستراتيجية بتوفير مبلغ (55) مليون دولار شهرياً بالسعر التأشيري الرسمى وتوزيعها بقيمة (20) مليون دولار شهرياً على الامدادات الطبية، و (40) مليون دولار فوراً لقطاع الاستيراد لفك الضائقة الحالية ومن ثم (25) مليون دولار شهرياً، اضافة الى (10) ملايين دولار لقطاع الصناعة الدوائية، واشار الى إنشاء محفظة دائمة تعمل على الإيفاء بمطلوبات القطاع السنوية من العملة الحرة المقدرة بـ (٦٥٠) مليون دولار مع توضيح آليات التنفيذ، والالتزام بسداد وجدولة الديون المستحقة على الامدادات الطبية البالغة (١٠٣) ملايين دولار، والشركات المستوردة البالغة (٦٠) مليون دولار بالسعر التأشيري الرسمي، والالتزام بوضع معالجات عادلة للمصانع المحلية في ما يخص فروقات أسعار المواد الخام التي تم استيرادها في الفترة السابقة والارتفاع الواضح في التكاليف التشغيلية، وتفعيل وتشجيع طرق الدفع الآجل من الشركات المحلية للشركات الأجنبية، فهذه الطريقة تضمن استدامة انسياب حوالى ٦٥% من الأدوية المستوردة والمواد الخام، ولكن هذه الطريقة تحتاج إلى ضمانات كافية من الحكومة متمثلة في وزارة المالية أو بنك السودان لسداد مستحقات الشركات الاجنبية حين وجوبها بالسعر التأشيري الرسمي البالغ (55.257) جنيهاً للدولار الواحد، واصدار صيغة رسمية في هذا الصدد ملزمة للتعامل بين بنك السودان والبنوك التجارية، وتشكيل فريق عمل مشترك ودائم من المجلس القومي للأدوية والسموم (الجهة الفنية) وبنك السودان ووزارة المالية لتسهيل الحصول على المبالغ المخصصة للدواء والمواد الخام ولضمان ذهابها لتغطية الحاجة الفعلية، ومراجعة اللوائح والتشريعات والإجراءات المُساهمة في زيادة الاحتقان بكافة المؤسسات ذات الصلة مع تفعيل الدور الرقابي للدولة .
انعدام تام
واكدت د. وفاء بابكر عثمان وهي تعمل باحدى الصيدليات في الخرطوم انعدام بعض ادوية السكري والضغط والبروستات وقطرات العيون، وقالت لـ (الإنتباهة) ان هنالك زيادة في اسعار الأدوية المحلية بنسبة تراوحت ما بين 70 ــ 80% في البضاعة الجديدة التي تم استلامها خلال اليومين السابقين، لافتة الى وجود مشكلة انواع من الأدوية لا توجد بالشركات ولكن توجود عند أفراد وتعرض في قروبات الواتساب وباسعار مرتفعة جداً وصفتها بالخرافية، وضربت مثالاً لذلك بوجود نوع دواء للبروستات وهو غير متوفر تصنيع محلي ويتم استيراده وسعره لا يتجاوز (500) جنيه، ولكنه الآن معروض في قروبات بسعر (1500) جنيه، وقالت: (لا توجد رقابة على شركات الأدوية تمنع تسرب ادويتها الى الافراد) واشارت الى وجود تباين واختلاف كبير في اسعار الادوية في الصيدليات، وشكت من عدم وجود قانون عمل ملزم للصيدليات خاص بالصيادلة العاملين بها.
بداية الأزمة
ويعود تاريخ الازمة الى عام 2018م، حيث انخفض سعر الجنيه بوتيرة متسارعة امام الدولار، ورفض مجلس الوزراء حينها زيادة سعر الدولار من (31) جنيهاً حتى اذا تم الشراء للدولار من السوق الموازى، واستمر هذا الحال الذى ادى الى احجام عدد من المستوردين عن الاستيراد بالمستوى المعتاد، حتى تم تعيبن معتز موسى رئيساً للوزراء الذى قام بابتداع آلية صناع السوق التى رفعت سعر الدولار من (31) الى (47) جنيهاً، وطالب المستوردين باعادة تسعير ادويتهم التى تم استيرادها خاصة التى تم استيرادها بالدفع الآجل او بتمويل عبر مرابحة او شراكة مع البنك بالسعر الرسمى، ورفض رئيس الوزراء الطلب وزاد ذلك عدد الاصناف التى توقف استيرادها، وزادت قرارات الرئيس المخلوع التى اصدرها خلال عام 2018 الازمة التى منعت استيراد الادوية المصنعة محلياً واصبحنا نعايش آثارها حالياً من انعدام وندرة عدد من الادوية شائعة الاستخدام مثل البندول والفلاجيل.
انخفاض الوفرة
شهدت فترة النصف الثانى من عام 2018 وحتى نجاح الثورة انخفاضاً فى استيراد الادوية بسبب عدم توفر النقد الاجنبى الكافى للاستيراد، بالاضافة الى احجام المستوردين عن الاستيراد بطريقة الدفع الآجل، وكذلك عدم استيراد الادوية المصنعة محلياً التى لم تستطع الصناعة الوطنية توفير الحاجة الكافية منها، وعندما تسلم المجلس العسكرى مقاليد الحكم تواصل العمل بنفس الوتيرة التى سبقت مع تحسن فى توفير النقد الاجنبى لمقابلة احتياجات الصندوق القومى للامدادات الطبية وسداد الديون المتراكمة لسنة ماضية، واستفاد المجلس العسكرى من الوديعة الاماراتية والسعودية فى ذلك، وترك الـ 10% من عائدات الصادر لشركات القطاع الخاص مع تشديد الضوابط لمنع تسربها، الا ان الحكومة الانتقالية استمرت فى السياسة السابقة لتمويل استيراد الادوية، الا ان الضغط على المصدرين ونسبة للانخفاض المتسارع لقيمة الجنيه امام الدولار قررت لجنة الطوارئ الاقتصادية الغاء الـ 10% من عائد الصادر لاستيراد الادوية دون تحديد بدائل لذلك، الامر الذى قوبل بالاحتجاج من الكيانات الثورية فى تجمع المهنيين من لجنة الصيادلة المركزية وتجمع الصيادلة المهنيين بالاضافة الى غرفة مستوردى الادوية ولجنة اصحاب صيدليات ولاية الخرطوم بالاضافة الى التجمع الصيدلى، وقاموا بتنظيم مؤتمر صحفى ونفذوا عدداً من الوقفات الاحتجاجية، ونظم اصحاب الصيدليات اضراباً جزئياً وتطور الى يوم كامل، وقاموا كذلك برفع عدد من المذكرات الى وزير الصحة ورئيس الوزراء مطالبين بتوفير (55) مليون دولار شهرياً للاستيراد للادوية والمواد الخام للصناعة الوطنية، اضافة الى جدولة الديون على الصندوق القومى للامدادات الطبية والبالغة (105) ملايين دولار.
محاولات فاشلة
وأخيراً وضعت الحكومة معالجة طارئة بتوفير عشرة ملايين دولار للصندوق القومى للامدادات الطبية لتوفير ادوية الطوارئ والبرامج العلاجية المدعومة من الدولة، وحتى الآن لم يلتمس مستوردو الادوية اية خطوات جادة من الدولة بحل مشكلة النقد الاجنبى، الامر الذى يفاقم الازمة يوماً بعد يوم، ولم تلق بيانات الاجسام الثورية اية آذان صاغية من قبل الحكومة، وكانت رابطة الاطباء الاشتراكيين قد اصدرت بياناً طالبت فيه بضرورة الحل العاجل لازمة الدواء، وكذلك اصدر تجمع المهنيين ولجنة الصيادلة المركزية بيانات تطالب الدولة بالتدخل لحل الازمة، خاصة ان هناك ادوية بالخارج تم تصنيعها وجاهزة للاستيراد، وادوية اخرى فى انتظار الموافقة على فتح اعتماداتها ليتم تصنيعها، ولكن تكمن الكارثة الكبرى فى الادوية التى توقف انتاجها او ترفض الدول المصدرة السماح بتصديرها بسبب جائحة كورونا.
تغيير مضطرد
وظلت الصناعة الوطنية مواصلة للعمل طيلة الفترات التى انخفض او انعدم فيها النقد الاجنبى المخصص لاستيراد المواد الخام، بل زاد انتاجها بعد القرارات التى اصدرها الرئيس المخلوع
لتغطية ما كان يتم استيراده، ولم تكن لها معاناة تذكر فى تسعير الادوية الا فى الفترة الاخيرة بعد ان قام وزير الصحة برفض التسعيرة التى اصدرها المجلس ورفضتها الاجسام الثورية فى ابريل الماضى، واطاح بالامين العام للمجلس د. عماد ابو ريد تبعاً لذلك، ودعا الوزير لاجتماع لوضع معالجة للامر، ولم يحضر ولم يكلف من ينوب عنه، الامر الذى اثر سلباً في مستوى الوفرة الدوائية، ومازال تسعير الادوية يراوح مكانه حتى الآن وارفف الصيدليات تخلو يوماً بعد يوم، والتغير المضطرد فى سعر الدولار مقابل الجنيه السودانى جعل السلطات الصحية ممثلة فى المجلس القومى للادوية والسموم تتبع سياسة مرنة فى تسعير الادوية المستوردة، حيث كانت تحسب السعر الرسمى بالاضافة الى الحافز التشجيعى المقرر من بنك السودان للمصدرين زائد 10 %، وكانت تلك المعادلة مجزية للمستوردين حتى عام 2013م، حيث ضاعفت الحكومة سعر الصرف للدولار مقابل الجنيه وزادت اسعار الوقود، وقابل ذلك اتساع فى الفجوة بين السعر الرسمى للدولار والسعر فى السوق الموازى واخفضت عائدات الصادرات، ونتاج لذلك بدأت تدب ازمة فى وفرة الادوية، وفرضت الحكومة حينها نسبة 10% من الصادرات غير الذهب لمقابلة احتياجات القطاع الخاص للادوية، وادت الى انفراج نسبى فى الازمة على الرغم من تسرب اكثر من (230) مليون دولار من عائدات الصادرات المخصصة للادوية لعدد من الشركات الوهمية (34 شركة) فى عملية فساد، وتمت محاكمة عدد من البنوك والافراد المنتمين للشركات الوهمية من قبل القضاء.
إطاحة
فى اواخر عام 2016 تم تحريك سعر الجنيه مقابل الدولار باكثر من ثلاثة اضعاف، وادى ذلك الى زيادات فى اسعار الادوية تسببت فى الاطاحة بالامين العام للمجلس القومى للادوية والسموم حينها د. محمد الحسن العكد، وفى عام 2017م اتبع المجلس سياسة مرنة تجاه شركات الادوية، حيث كان يتم حساب الاسعار حسب السعر الرسمى للشركة التى يتم تمويلها من عائد الصادر وبالسعر الموازى للشركة التى تغطى تكلفة استيرادها من مواردها الذاتية، وفى بداية عام 2018 زادت الحكومة السعر الرسمى من (16) جنيهاً الى (31) جنيهاً والتى كانت حينها تساوى السعر بالسوق الموازى، ولذلك لم تتأثر اسعار الادوية كثيراً لأن معظم شركات الادوية كانت تعتمد على السوق الموازى.
الوضع الدوائى
يوجد فى السودان (26) مصنعاً تعمل فى صناعة الادوية تنتج قرابة (1000) دواء ما يعادل 20% من الادوية المسجلة التى تزيد عن (5000) دواء وتستورد من خارج السودان عبر الصندوق القومى للامدادات الطبية وشركات القطاع الخاص بالاضافة الى المنظمات التى تغطى بعض الامراض وكذلك عدد من المناطق التى لا تصل اليها خدمات القطاع الحكومى والقطاع الخاص، ويغطى صندوق الامدادات الطبية حاجة المستشفيات والمراكز الحكومية والبرامج التى تدعمها الحكومة مثل برامج مرضى الكلى وبرنامج علاج السرطان وبرنامج العلاج المجانى للاطفال دون الخامسة وغيرها.
كيانات ثورية
وفي ذات السياق اكدت الحكومة الانتقالية على الاستمرار فى السياسة السابقة لتمويل استيراد الادوية، الا ان ضغط المصدرين ونسبة للانخفاض المتسارع لقيمة الجنيه امام الدولار قررت لجنة الطوارئ الاقتصادية الغاء الـ 10% من عائد الصادر لاستيراد الادوية دون تحديد بدائل لذلك، الأمر الذى قوبل بالاحتجاج من الكيانات الثورية فى تجمع المهنيين من لجنة الصيادلة المركزية وتجمع الصيادلة المهنيين بالاضافة الى غرفة مستوردى الادوية ولجنة اصحاب صيدليات ولاية الخرطوم بالاضافة الى التجمع الصيدلى، وقاموا بتنظيم مؤتمر صحفى ونفذوا عدداً من الوقفات الاحتجاجية، ونظم اصحاب الصيدليات اضراباً جزئياً وتطور الى يوم كامل، وقاموا كذلك برفع عدد من المذكرات الى وزير الصحة ورئيس الوزراء مطالبين بتوفير (55) مليون دولار شهرياً لاستيراد الادوية والمواد الخام للصناعة الوطنية، اضافة الى جدولة الديون على الصندوق القومى للامدادات الطبية البالغة (105) ملايين دولار، وأخيراً وضعت الحكومة معالجة طارئة بتوفير عشرة ملايين دولار للصندوق القومى للامدادات الطبية لتوفير ادوية الطوارئ والبرامج العلاجية المدعومة من الدولة.
تفاقم الأزمة
وحتى الآن لم يلتمس مستوردو الادوية اية خطوات جادة من الدولة بحل مشكلة النقد الاجنبى، الامر الذى يفاقم الازمة يوماً بعد يوم، ولم تلق بيانات الاجسام الثورية اية اذان صاغية من قبل الحكومة، وكانت رابطة الاطباء الاشتراكيين قد اصدرت بياناً طالبت فيه بضرورة الحل العاجل لازمة الدواء، وكذلك اصدر تجمع المهنيين ولجنة الصيادلة المركزية بيانات تطالب الدولة بالتدخل لحل الازمة، خاصة ان هناك ادوية بالخارج تم تصنيعها وجاهزة للاستيراد، وادوية اخرى فى انتظار الموافقة على فتح اعتماداتها ليتم تصنيعها. وتكمن الكارثة الكبرى فى الادوية التى توقف انتاجها او ترفض الدول المصدرة السماح بتصديرها بسبب جائحة كورونا.

صحيفة الانتباهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

14 + ستة =