الثلاثية .. من محفوظ إلى حمدوك!

الخرطوم : عين السودان

من (بين القصرين) ومروراً بـ (قصر الشوق) وحتى (السكرية) .. نسج الكاتب الروائي العظيم نجيب محفوظ .. عبر ثلاثيته الشهيرة .. صورة مبهرة دقيقة للمجتمع المصري ..قبل الثورة وأثناء الثورة وبعدها .. ثورة 1919 .. وبقدر ما كانت حياة ذلك المجتمع معقدة ومتشابكة المصالح .. تمور بالتناقضات .. خاصة فى طبقتها الوسطى .. كانت معالجات محفوظ مذهلة .. وصادمة أحياناً .. ولكنها ظلت محل احترام كل من طالع الثلاثية واستمتع بها ..!

عقب انتفاضة إبريل 1985 .. دفع بنا محجوب محمد صالح .. عميد الصحافة السودانية .. متعه الله بالصحة والعافية .. لنيل دورة تدريبية متقدمة في الأهرام القاهرية .. فزرنا ذات جمعة .. نجيب محفوظ فى مقهاه الشهير.. رفقة صديقي مصطفى أبو العزائم .. فكان أول سؤاله عن سبب ثورة السودانيين على نميري .. اندهشنا للسؤال .. فقد كنا نعتقد أن العالم كله يعلم أسباب ثورة السودانيين .. ولكنا لم نقل ذلك تهيباً للموقف .. فشرعنا في الإجابة .. تبادلنا طرح الأسباب .. على مسامع الأديب .. ثقيل السمع .. ثم رأينا .. وحيث إن نجيب محفوظ كاتب عربي مرموق .. أنه قد يهمه ما فعله النميري ضد العرب وقضيتهم المركزية كما كانت تسمى يومها .. فقلنا بصوت واحد .. إن نميري قد خان القضية الفلسطينية بنقل الفلاشا إلى إسرائيل .. كان رد محفوظ مفاجئاً وصاعقاً حين قال ..في استفهام استنكاري .. إنتو أغبياء ؟ .. مالكم ومال الفلاشا ومالكم ومال فلسطين .. ؟ كان الرجل غاضباً بالفعل .. وحوله حواريون ومعجبون .. لا يطيقون غضبته .. فلذنا بالصمت حينها .. لأنتبه بعد سنوات طويلة أن نجيب محفوظ كان يكتب في تلك اللحظة رواية ولكن بصوت عالِ .. وكان يمهد طريقاً للمجد يخصه هو ..!

لا تسألني الآن عن العلاقة بين هذه المقدمة .. وبين ما أنا بصدده الآن .. فأنا أيضاً لا أعلم .. وربما اكتشف ذلك بعد سنوات .. وأعدك بأن أبلغك إن مد الله فى الآجال .. فعلى خلفية تظاهرات الثلاثين من يونيو الحاشدة .. والتي يجمع المراقبون .. أنها قد منحت تفويضاً جديداً لرئيس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك .. وإن يرى البعض أنه تفويض مشروط هذه المرة .. رهين بتنفيذ جملة المطالب التي رفعها المتظاهرون في ذلك اليوم وقبله .. فقد تذكرت ثلاثيات تحيط بالسيد حمدوك .. فلئن كانت ثلاثية نجيب محفوظ مجرد رواية .. تلتقط خيطاً من هنا .. وتعقد حبكة هناك .. ثم يعمل الراوي مغزله لإزالة هذه العقدة أو شد ذلك الخيط .. وأن مسار الرواية كلها إنما يعتمد على قدرات الراوي وسعة أفقه وجموح خياله اللامحدود .. فإن ثلاثيات حمدوك إنما تستمد خيوطها وعقدها من واقع مرير .. غاية التعقيد .. بل وغاية القتامة .. شديد الاضطراب .. الذي يجمعها بروايات محفوظ النظرية فقط .. إن كليهما يعبر عن واقع ثورة .. قبلها وحينها وبعدها .. 1919 – 2019 .. يذهلني أنني أكتشف الآن فقط وأنا أكتب .. أن قرناً كاملاً يفصل بين الروايتين .. أو قل بين الثورتين .. والفرق بين ثلاثية نجيب محفوظ وثلاثيات عبدالله حمدوك .. يكاد يوازي بالفعل قرناً كاملاً من الزمان .. فإن كان المطلوب من نجيب محفوظ أن يقدم معالجة روائية قصصية لأحداث ثورة 1919 في مصر .. فإن المطلوب من عبدالله حمدوك الآن .. أن يقدم حلولاً عملية لقضايا غاية التعقيد سبقت وصاحبت وترتبت على ثورة 2019 في السودان .. فيا له من بون شاسع .. سمعتم عن ثلاثية نجيب محفوظ ولا شك .. وربما قرأتموها أيضاً .. إذن غداً نتحدث عن ثلاثيات حمدوك ..!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

19 + سبعة عشر =